تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 356 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 356

356 : تفسير الصفحة رقم 356 من القرآن الكريم

** وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَآبّةٍ مّن مّآءٍ فَمِنْهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ مَا يَشَآءُ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد, {فمنهم من يمشي على بطنه} كالحية وما شاكلها, {ومنهم من يمشي على رجلين} كالإنسان والطير {ومنهم من يمشي على أربع} كالأنعام وسائر الحيوانات, ولهذا قال {يخلق الله ما يشاء} أي بقدرته لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, ولهذا قال {إن الله على كل شيء قدير}.

** لّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مّبَيّنَاتٍ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ
يقرر تعالى أنه أنزل في هذا القرآن من الحُكْم والحِكَم والأمثال البينة المحكمة كثيراً جداً, وأنه يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر والنهى, ولهذا قال {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.

** وَيِقُولُونَ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالرّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمّ يَتَوَلّىَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَآ أُوْلَـَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُنْ لّهُمُ الْحَقّ يَأْتُوَاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوَاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ * إِنّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللّهَ وَيَتّقْهِ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْفَآئِزُون
يخبر تعالى عن صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون, يقولون قولاً بألسنتهم {آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك} أي يخالفون أقوالهم بأعمالهم فيقولون ما لا يفعلون, ولهذا قال تعالى: {وما أولئك بالمؤمنين}. وقوله تعال: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم} الاَية, أي إذا طلبوا إلى اتباع الهدىَ فيما أنزل الله على رسوله أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه, وهذه كقوله تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ـ إلى قوله ـ رأيت المنافقين يصدون عنك صدود}. وفي الطبراني من حديث روح بن عطاء عن أبي ميمونة عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعاً «من دعي إلى سلطان فلم يجب, فهو ظالم لا حق له».
وقوله تعالى: {وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين} أي وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم جاؤوا سامعين مطيعين, وهو معنى قوله {مذعنين} وإذا كانت الحكومة عليه أعرض ودعا إلى غير الحق, وأحب أن يتحاكم إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم ليروج باطله ثم فإذعانه أولاً لم يكن عن اعتقاد منه أن ذلك هو الحق, بل لأنه موافق لهواه, ولهذا لما خالف الحق قصده عدل عنه إلى غيره, ولهذا قال تعالى: {أفي قلوبهم مرض} الاَية, يعني لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مرض لازم لها أو قد عرض لها شك في الدين, أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم, وأيا ما كان فهو كفر محض, والله عليم بكل منهم وما هو منطو عليه من هذه الصفات.
وقوله تعالى: {بل أولئك هم الظالمون} أي بل هم الظالمون الفاجرون, والله ورسوله مبرآن مما يظنون ويتوهمون من الحيف والجور تعالى الله ورسوله عن ذلك. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا مبارك, حدثنا الحسن قال: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محق, أذعن وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق, وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض وقال: انطلق إلى فلان, فأنزل الله هذه الاَية فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من كان بينه وبين أخيه شيء فدعي إلى حكم من أحكام المسلمين فأبى أن يجيب, فهو ظالم لا حق له» وهذا حديث غريب, وهو مرسل.
ثم أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله الذين لا يبغون ديناً سوى كتاب الله وسنة رسوله, فقال {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعن} أي سمعاً وطاعة.ولهذا وصفهم تعالى بالفلاح, وهو نيل المطلوب والسلامة من المرهوب, فقال تعالى: {وأولئك هم المفلحون} وقال قتادة في هذه الاَية {أن يقولوا سمعنا وأطعن} ذكر لنا أن عبادة بن الصامت, وكان عقبياً بدرياً أحد نقباء الأنصار, أنه لما حضره الموت قال لابن أخيه جنادة بن أبي أمية: ألا أنبئك بماذا عليك وماذا لك ؟ قال: بلى. قال: فإن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك, وعليك أن تقيم لسانك بالعدل, وأن لا تنازع الأمر أهله إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحاً, فما أمرت به من شيء يخالف كتاب الله, فاتبع كتاب الله.
وقال قتادة: ذكر لنا أن أبا الدرداء قال: لا إسلام إلا بطاعة الله, ولا خير إلا في جماعة, والنصيحة لله ولرسوله وللخليفة وللمؤمنين عامة, قال: وقد ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: عروة الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين, رواه ابن أبي حاتم, والأحاديث والاَثار في وجوب الطاعة لكتاب الله وسنة رسوله وللخلفاء الراشدين والأئمة إذا أمروا بطاعة الله كثير جداً أكثر من أن تحصر في هذا المكان.
وقوله {ومن يطع الله ورسوله} أي فيما أمراه به, وترك ما نهياه عنه, ويخشَ الله فيما مضى من ذنوبه ويتقه فيما يستقبل. وقوله {فأولئك هم الفائزون} يعني الذين فازوا بكل خير وأمنوا من كل شر في الدنيا والاَخرة.

** وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنّ قُل لاّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مّعْرُوفَةٌ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ فَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مّا حُمّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرّسُولِ إِلاّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ
يقول تعالى مخبراً عن أهل النفاق الذين كانوا يحلفون للرسول صلى الله عليه وسلم: لئن أمرتهم بالخروج في الغزو ليخرجن, قال الله تعالى: {قل لا تقسمو} أي لا تحلفوا. وقوله {طاعة معروفة} قيل معناه طاعتكم طاعة معروفة, أي قد علم طاعتكم إنما هي قول لا فعل معه, وكلما حلفتم كذبتم, كما قال تعالى: {يحلفون لكم لترضوا عنهم} الاَية. وقال تعالى: {اتخذوا أيمانهم جنة} الاَية, فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه, كما قال تعالى: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً, وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون * لئن أخرجوا لا يخرجون معهم, ولئن قوتلوا لا ينصرونهم, ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون}.
وقيل المعنى في قوله {طاعة معروفة} أي ليكن أمركم طاعة معروفة, أي بالمعروف من غير حلف ولا أقسام, كما يطيع الله ورسوله المؤمنون بغير حلف, فكونوا أنتم مثلهم {إن الله خبير بما تعملون} أي هو خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي, فالحلف وإظهار الطاعة والباطن بخلافه وإن راج على المخلوق, فالخالق تعالى يعلم السر وأخفى, لا يروج عليه شي من التدليس, بل هو خبير بضمائر عباده وإن أظهروا خلافها. ثم قال تعالى: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} أي اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله.
وقوله تعالى: {فإن تولو} أي تتولوا عنه وتتركوا ما جاءكم به {فإنما عليه ما حمل} أي إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة {وعليكم ما حملتم} أي بقبول ذلك وتعظيمه والقيام بمقتضاه {وإن تطيعوه تهتدو} وذلك لأنه يدعو إلى صراط مستقيم {صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض} الاَية. وقوله تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ} كقوله تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}. وقوله {فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمصيطر}. قال وهب بن منبه: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء أن قم في بني إسرائيل, فإني سأطلق لسانك بوحي, فقام فقال: يا سماء اسمعي ويا أرض أنصتي, فإن الله يريد أن يقضي شأناً ويدبر أمراً هو منفذه, إنه يريد أن يحول الريف إلى الفلاة, والاَجام في الغيطان, والأنهار في الصحارى, والنعمة في الفقراء, والملك في الرعاة, ويريد أن يبعث أمياً من الأميين ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, لو يمر على السراج لم يطفئه من سكينته, ولو يمشي على القصب اليابس لم يسمع من تحت قدميه, أبعثه بشيراً ونذيراً, لا يقول الخنى, أفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً, وأسدده لكل أمر جميل, وأهب له كل خلق كريم, وأجعل السكينة لباسه, والبر شعاره, والتقوى ضميره, والحكمة منطقه, والصدق والوفاء طبيعته, والعفو والمعروف خلقه, والحق شريعته, والعدل سيرته, والهدى إمامه, والإسلام ملته, وأحمد اسمه, أهدي به بعد الضلالة, وأعلم به من الجهالة, وأرفع به بعد الخمالة, وأعرف به بعد النكرة, وأكثر به القلة, وأغني به بعد العيلة, وأجمع به بعد الفرقة, وأؤلف به بين أمم متفرقة, وقلوب مختلفة, وأهواء مشتتة, وأستنقذ به فئاماً من الناس عظيماً من الهلكة, وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس, يأمرون بالمعروف, وينهون عن المنكر, موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين بما جاءت به رسلي, رواه ابن أبي حاتم.